Wednesday 28 December 2016

السيرة الذاتـية وتطورها في الأدب العربي الحديث

السيرة الذاتـية وتطورها في الأدب العربي الحديث
بالتركيز على مصر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،  أما بعد؛
فلما اشتغل الباحث بقراءة السيرة الذاتية في الأدب العربي مستحسنا بعناصرها الأدبية ومستمتعا بنسيم سَرْدها، أزعجه تنوُّعُ أكنافِ هذا الفن، كما أقلقته غزارةُ الكتب في هذا الحقل بمسمّيات متجانسة تحت عناوين عذبة. من هنا سعى الباحث - فارغ الصبرِ- لِتَنسيقِ أصنافِ هذه الفنونِ من وسْط الإشكاليات المعضلة، أما القضية فأزاحت الباحثَ وحمّلته من الآصار ما لا طاقة له به.
 فأولا وقبلَ كلِّ شيءٍ ركّز الباحث عنايته على البحوث السابقة والدراسات الهامّة المتعلقة بالسيرة الذاتية، فهذا ثلاثة عشر بحثا مستفيضا حول السيرة الذاتية، بعضها يدور حول السيرة الذاتية للزعماء السياسيين وبعضها يتناول ناحيةً خاصةً من كتب السيرة الذاتية وبعضها موسوعةٌ في السيرة الذاتية ومؤلّفيها. منها ‘الترجمة الشخصية’ لدكتور شوقي الضيف، و‘مذكرات السياسيين والزعماء في مصر’ لمحمد رمضان، و‘الأدب وفنونه’ لإسماعيل  عزالدين، و‘السيرة الذاتية’ لأمير أرسلان، و‘السيرة الذاتية: دراسة نقدية’ لعبد الستار، و‘الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث’ ليحي إبراهيم عبد الديم و‘فن السيرة’ لعباس إحسان و‘الموت والعبقرية’ لعبد الرحمن بدوي و‘الترجمة الشخصية’ لمحمد عبد الغنى الحسن، وغيرها الكثيرة .
وشجّعت هذه الدراسات كلّها القارئ وأرشدته كما فتحت أمامه بابا جديدا لامتصاص رحيق هذا الفن، أما الوقوف على تاريخ تطور السيرة الذاتية عبر العصور جزءا للأدب العربي وُجدت قضية تمسُّ الحاجة حلّها في أسرع وقت ممكن حتى تكون السيرة الذاتية دانية القطوف أمامنا، فتم اختيار الباحث موضوع "السيرة الذاتية وتطورها في الأدب العربي الحديث بالتركيز على مصر"   لنيل شهادة  الدكتوراه في جامعة كاليكوت.
حقا، السيرة الذاتية جزء لا يتجزأ من الأدب مثل الشعر والنثر والقصة والرواية والمسرحية والمقالة وغيرها، لها  مكانة  ممتازة في الأدب العربي . استعمل الكُـتّاب منذ العصر الجاهلي عن قصة حياة الكاتب كلمة خبر ثم استعملوا كلمة سيرة وبعد ذلك تطورت هذه الكلمة واستعملوا كلماتٍ كثيرة مثل فضائل و مناقب وفهرست ورسائل ومذكّـرات وغيرها من المسميات المناسبة.
وإن السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم،  لم تتكون فنا من فنون الأدب العربي المستقل،  بل كنا نري قصة حياة الكاتب طول شعره أو نثره، فيعالجها في قصائده أو نثره. هكذا وُلدت السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم. ربما كان الشعراء الجاهليون يصورون في قصيدتهم الأحداث التي حدثت في زمنهم، كما صور امرؤ القيس  في معلقته دارة الجلجل.
يقول المستشرق الأماني كارل بروكلمان في مقالة بعنوان ‘ما صنّف العرب في أحوال أنفسهم’ " كان العرب الجاهليون يفرحون بذكر مآثر أسلافهم وأيامهم  وأنسابهم  وينشدونها في شعرهم"، على نمط هذا ترعرعت السيرة الذاتية في الأدب العربي ثم تنوعت مثل الرسائل والوجدانيات والرحلات في العصر الإسلامي والأموي والعباسي، وصور الأدباء أحوالهم وما في أنفسهم في الرحلات والرسائل، فصارت الرحلات فنا مستقلا  في الأدب العربي القديم.
أما كِتاب ‘الاعتبار’ لأسامة بن منقذ عبقري القرن الثاني عشر الميلادي فيعد نموذجا عاليا في صورتها الكاملة للمذكرات والتراجم الذاتية،  وفي هذا القرن نفسه ألّف الشاعر عمار اليمنى  الكتاب ‘النكت العصرية’،  وترجم فيه لنفسه  كما ترجم لغيره  من الوزراء ورجالِ  الحكم في أخريات العصر الفاطمي. وفي القرن الثالث عشر الميلادي أُلِّف الكتاب ‘وفيات الأعيان’ على يد ابن خلكان المتوفى سنة 681 هجري، وقد سجلت العصور التالية  كسبا رائعا في ميدان  التراجم وتاريخ الرجال على اختلاف ألوانهم وثقافتهم حتى تنوعت السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث في أشكال مختلفة، مثل المذكرات والرحلات والوجدانيات واليوميات وترجمة الشخصيات، فقد نضج أدب السيرة الذاتية في مصر مع القرن العشرين. وعلى هذا، فقد وزّع الباحث هذه الأطروحة إلى مقدمة وخمسة أبواب، وخاتمة، مع ذكر المصادر والمراجع.
ويعالج الباب الأول الأدب العربي والسيرة الذاتية، فيه ستة فصول، الفصل الأول في تعريفات السيرة الذاتية، والثاني حول أقسام السيرة الذاتية وأنواعها، فيه تعريفات أدب المذكرات وأدب الرحلات وأدب الرسائل وأدب الوجدانيات وأدب اليوميات، وفي الفصل الثالث بحث عن الفرق بين الترجمة والسيرة الذاتية،  يبين فيه الباحث ما هي الترجمة، وما هي السيرة الذاتية، وفي الفصل الرابع تعريف التراجم ونشأتها في الأدب العربي القديم والحديث ويفسّر نشأة التراجم العامة  والتراجم حسب العصور والتراجم حسب السنين والتراجم في كتب التاريخ العام والتراجم في كتب الخطاط والأمصار وطبقات الصحابة وطبقات الفقهاء وطبقات المفسرين والقراء وطبقات المحدثين والحفاظ وطبقات النحاة وطبقات الشعراء وطبقات الصوفية وطبقات القضاة وطبقات الأطباء وطبقات الفلاسفة والحكماء وتاريخ البلدان وتراجم رجالها وتراجم النساء ويبحث الفصل الخامس عن السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم وفي العصور المختلفة، ويبحث الفصل السادس عن نشأة السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث.
والباب الثاني يتمحور حول المذكرات، فيه فصلان، يبحث الفصل الأول عن تعريف المذكرات، والثاني إطلاع على أهم الكتب في المذكرات في مختلف البلدان، ويحلل ‘مذكراتي في نصف قرن’ لشفيق باشا، و‘مذكرات في السياسة المصرية’ لأحمد حسين هيكل و‘مذكرات’ لمحمد كرد علي ومذكرات عرابي باشا ومذكرات الشيخ محمد عبده، و‘مذكرات سائح في الشرق والغرب’ لأبي الحسن على الحسن الندوي، و‘مذكرات الدعوة والداعية’، لحسن البناء ومذكرات عبد الرحمن الرافعي  والاعتراف - قصة نفسي  لعبد الرحمن شكري.
والباب الثالث بحث عن ‘الرحلات’ فيه خمسة فصول، يبحث الفصل الأول عن أدب الرحلة في الأدب العربي، والثاني جولة حول كتب "الرحلات" في الأدب العربي القديم، والثالث يبحث عن أنواع كتب الرحلات في الأدب العربي، والفصل الرابع دراسة عن أهم كتب الرحلة  في العصر الحديث يبحث فيه عن الكتب مثل تخليص الإبريز في تلخيص بارز لرفاعة الطهطاوي، وقليب لبنان لأمين الريحاني و الواسطة في أخبار مالطة وكشف المخبأ في فنون أوروبا لفارس الشدياق، و غرائب الغرب لكرد علي و مصر إلى مصر  لمحمد فريد وغيرها.
والباب الرابع باب مناقشةٍ عن السيرة الذاتية في مصر، هي مهد الأدب العربي بجميع فنونه، فيه أربعة فصول وفي الفصل الأول بحث عن أهمية السيرة الذاتية والفصل الثاني يبحث عن عيوب السيرة الذاتية، والفصل الثالث دراسة عن السيرة الذاتية العربية التي أجراها بعض العباقرة العرب والمستشرقين، الفصل الرابع يبحث عن كتب السيرة الذاتية في مصر. والباب الخامس يحلل أربعة من كتب السيرة الذاتية هي  الأيام  لدكتور طه حسين وحياتي لدكتور أحمد أمين وأنا وحياة القلم لعبّاس محمود العقاد ومعك لسوزن طه.
ومن الحقيقة التاريخية أن لكل صاحبِ قلمٍ راقٍ دورا في السيرة الذاتية وهي مقروءة في أنحاء العالم، ويحتل بعضها مكان الصدارة من بين شقيقاتها، فيرجو الباحث أن تكون هذه المحاولة مساهمة متواضعة لأغراضٍ تُثري منْ يريد أن يُقرع هذا الباب قارئا ومبدعا، منها:
·        الإحاطة بالمسميات المختلفة للسيرة الذاتية  عبر العصور
·        الإطلاع على أهم الدراسة والبحوث عن  السيرة الذاتية
·        كشْف شامل لتطور السيرة الذاتية
·        استقطاب كتب السيرة الذاتية  في مصر والكشف عن قيمتها الأدبية
·        تحليل عن أربعة من السيرة الذاتية للعباقرة من العصر الحديث
·        جمع الباحث السيرة الذاتية في الأدب العربي واستخرج عناصرها الأدبية، وقيّم أسلوبِ سَرْدها، نتيجةً لهذا أتي الباحث بحَلِّ يُزيل ما أزعجه من تنوُّعُ أصناف السيرة الذاتية، فجمع عديدا من الكتب رغم غزارته في هذا الحقل وبوّبها حيث أنها أدب المذكرات، وأدب الرحلات، وأدب الرسائل، وأدب الوجدانيات، وأدب اليوميات.
·        استخرج هذا البحث العوامل العامّة التي شجعت الكاتب للتأليف في سيرة ذاته، كما نوّه البحث أنّ السيرة الذاتية موضوع نقاش لأدب المقارنة.
·        وأحاط الباحث بأكثر من ثلاثة عشر بحثا سابقا حول السيرة الذاتية في مختلف العصور. رغم وجود موسوعات في السيرة الذاتية ومؤلّفيها ووجود السيرة الذاتية للزعماء السياسيين ووجود الترجمات الشخصية للعباقرة مثل الدكتور شوقي الضيف، لم يُعْن أحد من هؤلاء العلماء بتاريخ تطور هذا الفنّ؛ إذْ لم يُؤلف فيه في التراث.  
·        ويوضح هذا البحث أهمية النقد، ونقدُ النقد ودورهما في إثراء السيرة الذاتية، فدراسة عبد الستار في كتابه, السيرة الذاتية: دراسة نقدية طفرةٌ في هذا الحقل.
·        ويلفت هذا البحثُ نظرَ القارئ كما يُرشده ليختار من السيرة الذاتية ما تأثر بالمنهج الحديث، ويلقي الضوء على كلمات مختلفة استعملها الكُـتّاب منذ العصر الجاهلي ليشيروا إلي قصة حياة الكاتب مثل خبر,  و سيرة, وفضائل ومناقب وفهرست ورسائل ومذكّـرات.
·        ويدل البحث على دور المستشرقين في جمع المؤلفات العربية  الواردة في  مجال السيرة الذاتية من العصر الجاهلي وتصوير تجاربه من بين كلامهم النثرية والشعرية، هذا يقول بروكلمان : "كان العرب الجاهليون يفرحون بذكر مآثر أسلافهم وأيامهم  وأنسابهم  وينشدونها في شعرهم".
·        وهذه الدراسة تشير إلى مراحلِ تطور السيرة الذاتية في الأدب العربي التي ترعرعت باسم الرسائل والوجدانيات والرحلات في العصر الإسلامي والأموي والعباسي، كان الأدباء يصوّرون أحوالهم وعصارة أنفسهم في رحلاتهم ورسائلهم، ثمّ صارت الرحلات فنا مستقلا في الأدب العربي القديم. إن السيرة الذاتية فن مستقل في الأدب العربي.
·        للسيرة الذاتية أجزاء كثيرة منها أدب المذكرات وأدب الرحلات وأدب الرسائل و أدب الوجدانيات و أدب اليوميات, وكل هذا يحلل بيانات النفسية أو السياسية أو الاجتماعية لكاتبها.
·        السيرة الذاتية نوع خاص من السيرة، وأنها تفاصيل حياة شخصية يكتبها بنفسه على شكل قالب فني متكامل
·        كان شعراء الجاهلية يعالجون أحوالهم وبيئتهم وأحزانهم وهمومهم في قصائدهم. وهكذا ولدت السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم.
·        وكانت السيرة الذاتية تعرف في العصر الجاهلي "بالشعر الوجداني" بعض الشعراء كانوا يمثلون أحوالهم وعواطفهم في قصيدتهم مثل ما يمثل امرؤ القيس في معلقته عن يومه "دارة جلجل" ثم تطور "الشعر الوجداني" حتى يعرف الآن في الأدب العربي الحديث فنا جديدا مستقلا يسمى "أدب الوجدانيات". علي كل حال هذا يعد جزءا من أجزاء السيرة الذاتية أو شكلا من أشكال السيرة الذاتية أو قسما من أقسام السيرة الذاتية. لأنها أساسيا تتمحور حول الحياة الشخصية لكاتبها.
·        يجمع الباب الثاني التعريفات الدقيقة المختلفة للمذكرات ويدل إلى الفرق الواضح بين السيرة الذاتية والمذكرات ويدل على أهمية المذكرات في الأدب العربي المعاصر
·        يحلل خمس عشرة مذكرة للعباقرة من العصر الحديث ويدل على أنّ التصوير الذاتي في المذكرات الحديثة جذابة ممتازة لا مثيل لها في النثر العربي القديم
·        ومن الواضع على أنّ مذكرة كرد علي في الدرجة الأولى من بين هذه المذكرات المتحللّة وذلك أنها تدل علي الثورات الأهلية والداخلية وسلبيات الاحتلال والهمجية والوحشية من قبل الحكام نحو الشعب رغم كونها مرآة صادقة لحياته الحافلة بالإحداث صغيرة و كبيرة.
·         أثناء الباب الثالث قد حاول الباحث أن يحدد فن الرحلة بتعريف جامع مانع كما حاول أن يأتي بتفصيل عن العوامل والرغبات التي دفعت الكاتب لتسجيل هذا الفنّ.
·         والبحث قد أوضح علي أن أدب الرحلة أوسع بالنسبة إلى المذكرات لأنّ الكاتب كثيرا ما يصور في المذكرات ذاته حينما يصور الكاتب في الرحلات أخباراً ومشاهد وأوصافاً وتعليقات وملاحظات موجزة
·         و من الملاحظ على أنّ أدب الرحلات من أصدق المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهد الحية، والتصوير المباشر، مما يجعل قراءته مفيدة وممتعة ومسلية.
·        قد بين هذا البحث أن السيرة الذاتية لسيد قطب ( طفل من القرية) محاولة فكرية ضد الخرافات والأساطير الشائعة في عصره
·         و يبين خلال هذا البحث علي أن توفيق الحكيم قد عالج القضايا الاجتماعية مثل تخلف النساء والأمية العامة , فقد أصبح توفيق الحكيم اصدق وأعمق في السيرة الذاتية أكثر مما كان في مسرحياته  .
·        البحث يسلط الضوء على أن السيرة الذاتية لنزار القباني في الدرجة الأولي من بين هذه السير الذاتية بميزته الأدبية.
وليس في وسع أي باحث في التراحم الذاتية في الأدب العربي الحديث أن ينتهي من بحثه دون الإشارة إلى بعض الكتب المهمة التي ظهرت  في الأدب العربي الحديث : مثل كتاب " الأيام "لطه حسين وكتاب "أنا " لعباس محمود العقاد وكتاب " حياتي " لأحمد  أمين وكتاب "معك" لسوزن طه حسين. وهذه  الكتب مثالية عالية للسيرة الذاتية بكمالها وشمولها حيث أن هؤلاء الكتاب يسجلون حوادثهم وأخبارهم ويسردون أعمالهم وآثارهم ويذكرون أيام طفولتهم وشبابهم وكهولهم وما جرى لهم فيها من أحداث عظم شأنها وكثر تأثيرها بل هي أصدق ما يكتب عن إنسان وأكثره انطباقا على حياته .

أخيرا, ينبّه هذا البحث علي أن السيرة الذاتية ليست بمرآة لحياة الكاتب فحسب بل هي مِجْهَرٌ للحوادث التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأدبية والدينية أيضا.

No comments:

Post a Comment

Arabic story for LP

اَنَا اَقُصُ اَمَامَكُمْ قِصِّةً عَنِ دَارِسَةُ الاَمِينَة اِسْمُهَا فَاطِمَة مَاتَ اَبُوهَا قَبْلَ سَنَوَاتٍ وَكَانَتْ تَعِيشُ مَعَ اُمِّهَ...